التقدم الرقمي يحقق نجاحات مستدامة

 

بقلم توماس كوروفيلا، مدير وشريك في آرثر دي ليتل الشرق الأوسط

رغم التحديات التي واجهها العالم في السنوات الماضية والتي تمثلت بالتغير المناخي والهجمات الإلكترونية وحتى المشاكل الجيو سياسية، لم يكن أحد يتوقع أن التحدي الأكبر الذي سيواجهه العالم في عام 2020 سيكون فيروساً خطيراً تحول إلى جائحة عابرة للبلدان والحدود. ومع ذلك، فإن فشلنا في توقع ظهور فيروس كورونا المستجد أمر يمكن التسامح معه – فنحن في النهاية بشر نصيب ونخطئ -لكن كل ما جرى حتى الآن يثير تساؤلاً مهماً: إذا كان العالم يوشك على تجاوز هذا الوباء، فما الذي يدفعنا للاعتقاد أنه بإمكاننا التنبؤ بما يخبئه المستقبل لنا ولأعمالنا من تحديات جديدة؟ وبالنسبة لعالم الأعمال في المملكة العربية السعودية، فإن الواقع يقول أن الأيام التي كنا نستطيع فيها التنبؤ بالمستقبل قد ولّت وانتهت – أو على الأقل يجب أن تكون قد ولت.
وحتى قبل أن تخيّم تداعيات “فيروس كورونا” على واقع حياتنا اليومية، كانت التغييرات الأساسية المدفوعة بالتكنولوجيا الرقمية بالفعل تزعزع وتحدث تحولات ملحوظة عبر جميع القطاعات حول العالم. وفي الحقيقة، سواءً تعلق الأمر بالرعاية الصحية، أو الطاقة، أو الاتصالات، أو العقارات، أو النقل، فإن التغيرات التي شهدتها السنوات الخمس الماضية كانت أكثر بكثير مما حدث في العقدين أو الثلاثة عقود التي سبقت ذلك – ومن المتوقع أن تزداد وتيرة هذا التغيير.
وبالنسبة للمؤسسات بمختلف أحجامها ومجالات أعمالها، فإنها تحتاج – وعلى نحو ضروري – لاتخاذ إجراءات من شقين: أولاً، من الضروري تحويل التركيز من تطوير الإستراتيجية إلى تحديد وبناء القدرات / الكفاءات المناسبة للقطاع. وهنا يعتمد وضع الاستراتيجيات على الفرضية والتكهنات والتنبؤ. وعلى النقيض من ذلك، فإن بناء القدرات المناسبة – داخلياً ومن خلال الشراكات – من شأنه تعزيز مرونة الشركات وقدرتها على مواكبة المتطلبات التي قد تنشأ مستقبلاً.
ثانياً، يجب على الشركات إعادة التفكير في كيفية اتخاذ القرارات، إذ لطالما أدت إجراءات التسلسل الهرمي إلى حصر عملية صنع القرار بيد كبار الرؤساء والمديرين، ولكن في سياق التغيير المستمر، لم يعد هذا النموذج مناسباً للمرحلة الحالية والقادمة. فالمؤسسات التي تمكنت من الصمود – بل الازدهار – خلال جائحة كوفيد – 19 هي تلك التي عملت على تعزيز قدرة موظفيها على اتخاذ القرار. والمنطق يقول: الموظفون ذوو المستوى الأدنى هم الأقرب إلى السوق، لذا فإن تمكينهم من اتخاذ القرارات يعني أن الشركة يمكن أن تتفاعل بشكل أسرع مع متطلبات المستهلكين.
ولكي ينجح هذا النهج الجديد، ينبغي على الشركات الاستعانة عبر كافة عملياتها بموظفين من ذوي الكفاءات العالية القادرين على اتخاذ القرارات المناسبة، والاعتماد في الوقت ذاته على الحلول الرقمية للتعامل مع الأنشطة والعمليات المتكررة التي عادة ما تقوم بها الأيدي البشرية. ويشكل الاعتماد على التكنولوجيا في مثل هذه المهام جزءاً هاماً ورئيسياً في الرحلة نحو الرقمنة.
وبالطبع، لم تكن هذه الاحتياجات وليدة مرحلة الجائحة – على الرغم من أنها سرّعت الحاجة وجعلتها أكثر إلحاحاً، وبالنسبة للشركات التي تختار تحسين قدراتها الرقمية وتعزيزها، فمن الممكن جداً أن تحقق نتائج تحولية حقيقية. وبلا شك تساهم الرقمنة في تعزيز إمكانات الشركات وتحسينها لخلق مزايا إضافية للأعمال بنسبة 30 في المئة إلى 40 في المئة من الاستثمار نفسه. وسواء تعلق الأمر بتطبيقات مشاركة الرحلات أو توصيل الوجبات الجاهزة عبر الإنترنت أو الخدمات الصحية الرقمية، فقد تغيرت الطريقة التي نعيش ونعمل بها، مع آثار واضحة على مجموعة كاملة من القطاعات. وبالفعل، تتعامل شركات النقل اليوم مع عدد أكبر من المسافرين بنسبة 50 في المئة ؛ كما تقوم المطاعم بإعداد وجبات وقوائم طعام مضاعفة، بينما تخدم المستشفيات عدد أكبر من المرضى بنسبة 30 في المئة .
ومع ذلك، فإن عملية تعزيز هذه الإمكانات ليست بالأمر الهين. وبينما تواجه الشركات العديد من التحديات المتعلقة بالرقمنة وتغييرات ما بعد الجائحة، يمكن للاستشاريين الإداريين المساهمة في دعم الشركات في رحلاتها نحو العصر الرقمي. ولكن يبرز هنا تحدٍ جديد، حيث أنه لفترة طويلة، أثبتت الاستشارات الإدارية أنها أكثر فائدة لشركة الاستشارات منها للعميل. وفي المتوسط، يتمكن العملاء فقط من التنفيذ الكامل والاستفادة من حوالي 50 في المئة من توصيات الاستشاريين. وفي المقابل، يتم دفع رواتب الاستشاريين بالكامل تقريباً ونادراً ما يتأثرون بالتداعيات الناتجة عن تقديم نصائح وإرشادات سيئة أو ذات تأثير سلبي.
لذلك، من المهم للغاية أن تتغير ديناميكيات وطرق تقديم الاستشارات للعميل بالتوزاي مع التحولات التي فرضتها جائحة كوفيد – 19 على الشركات، ومن الأمور المركزية في هذه العملية إعادة التفكير في رسوم الخدمات. وببساطة، لا ينبغي أن تستند الرسوم إلى الوقت والموارد ولكن على النتائج والفوائد. وهذا لا يعني أن الاستشاريين يجب أن يتقاضوا أجوراً أقل؛ بل، يجب مكافأة أولئك الذين يحققون نتائج إيجابية وفقاً لذلك. ويجب على الاستشاريين تقاسم المخاطر والمكافآت مع العملاء، مع منافع متبادلة لكلا الطرفين.
وبطبيعة الحال، فإن الأفضل في العمل هو من يقدم أفضل النتائج، وهذا بالتحديد المكان الذي يجب أن يحدث فيه التغيير الثاني. فخلال البحث عن الدعم الخارجي، تنجذب الشركات عادةً نحو الشركات الاستشارية الكبيرة المتعددة الجنسيات. ومع ذلك، فكلما كبرت الشركة، زادت الخبرة الداخلية (المقيدة). وتعتمد الاستشارات التي تقدمها الشركات الكبيرة بشكل حصري تقريباً على القدرات الداخلية فقط، بينما تتبع الشركات الأصغر والأكثر مرونة نهج “الاستشارات المفتوحة”، مما يعزز مستوى التكامل بين الخبرات الداخلية والخبرات الخارجية (الأفضل في فئتها) لتقديم أفضل النتائج الممكنة.
ومن خلال الحصول على الدعم المناسب، ستتمكن الشركات من تكثيف قدراتها وإحداث التحولات المطلوبة في نماذج أعمالها. وعلى الرغم من الصعوبات والاضطرابات التي شهدها العام الماضي، فقد كان هناك جانب إيجابي يتمثل في أن 10 في المئة إلى 20 في المئة فقط من الإمكانات التي نراها اليوم كانت موجودة قبل الوباء، أما كل ما تبقى فهو إدراك لذلك.