أسامة سرايا يكتب : البيت الأبيض بين الأقوال والأفعال

 

المتابع لتصريحات وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بشكل خاص وإدارة جو بايدن بشكل عام يصاب بالذهول من فرط التناقض بين أقوال الإدارة الأميركية وأفعالها على الأرض
ساعات فقط من قيام الطيران الأميركي بتنفيذ ضربات دقيقة ضد فصائل مدعومة من إيران في العراق وسوريا، والتي تعد المرة الثانية التي يأمر فيها جو بايدن، بشن مثل هذه الهجمات منذ توليه السلطة قبل خمسة أشهر، يخرج وزير الخارجية الأميركي ليقول إن الضربات الأميركية رسالة مهمة وقوية للميليشيات المدعومة من إيران..!
لم تكن هذه المرة الأولى التي تخرج فيها تصريحات بهذا الشكل من مسؤولين كبار داخل الإدارة الأميركية، وتحديدا من وزير خارجيتها التي شن هجوما حادا على النظام الإيراني قبل أيام أيضا خلال مؤتمر صحفي مع نظيره الفرنسي في باريس
هذا من جانب التصريحات الإعلامية، أما من جانب الأفعال على أرض الواقع، وعلى طريقة المثل الدارج “أسمع كلامك أصدقك أشوف أمورك أستعجب” فنرى العجب العجاب من الإدارة الأميركية من خلال تشبثها غير المعقول بإتمام صفقة التفاوض مع النظام الإيراني في فيينا، رغم كل الإشارات السلبية التي يبعث بها نظام الملالي وسياسات التسويف والمماطلة منذ وصول بايدن إلى البيت الأبيض
وبعيدا عن الاختلاف أو الاتفاق حول السياسات الخارجية للرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، إلا أن النهج الذي اتبعه مع إيران على مدار أربع سنوات كان له تأثير كبير في لجم التحركات الإيرانية، بل وأثر بشكل أكبر على النظام من الداخل بدءا من ضربات التوماهوك وتصفية قاسم سليماني، وغير ذلك من سياسات الضغط القصوى التى لو كُتب لها الاستمرار لفترة أطول لأصبح لها مردود كبير في إحداث اختراق جذري في تصرفات هذا النظام الذي استمر في نهج تصدير الثورة واستهداف الدول المجاورة وخلق ميليشيات معادية للأنظمة المعتدلة في الشرق الأوسط على مدار سنوات.
وبرغم استمرار التهديدات كما قال البنتاغون في بيانه الأخير حول الميليشيات العراقية بعد ضربات الأنبار، واستمرار الدعم الإيراني عسكريا ولوجستيا للميليشيات الحوثية في اليمن، وسياسات التغيير الديموغرافي في سوريا على أيدي الميليشيات الإيرانية، واحتكار السلطة بقوة السلاح على أيدي ميليشيا حزب الله في لبنان، إلا أن ذلك لم يستطع إيقاف البيت الأبيض عن مساعيه في إتمام صفقة فيينا حول العودة للاتفاق النووي
هذا من جانب الولايات المتحدة، أما من جانب النظام الإيراني فحدث ولاحرج.
كل الرسائل التي أرسلها نظام الملالي على مدى ثلاثة أشهر من المفاوضات تؤكد الاستمرار في سياساته العدائية، بل إنه بات يتجه نحو مزيد من التطرف والتشدد، مع وصول إبراهيم رئيسي الذي قد يصبح لاحقا مرشدا أعلى خلفا لخامنئي، والمعروف بسجله المروع في انتهاكات حقوق الإنسان، ومواقفه المتشددة تجاه عدد من الملفات المحورية، مثل ملف دعم الميليشيات الإيرانية في الخارج، وملف الصواريخ الباليستية، وغيرهما من الملفات الجوهرية في السياسات الإيرانية المرتبطة بالأمن الإقليمي والعالمي.
وصول رئيسي إلى كرسي الرئاسة في طهران لم تكن الرسالة الأولي لنظام الملالي إلى الولايات المتحدة، بل تزامن معها أفعال على أرض الواقع تؤكد استمراية النهج الإيراني، بدءا من إعلان طهران عبر مندوبها في فيينا أنها غير ملزمة بتجديد اتفاق التفتيش الموقع مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والذي انتهت مدته منذ قرابة الأسبوع، وكذلك مطالبات حرسها الثوري من شيعة أفغانستان بعدم التعرض لمسلحي حركة طالبان التي باتت على مقربة من الاستيلاء على أفغانستان حتى قبل إتمام الانسحاب الأميركي، وإعلان الخارجية الإيرانية أن طهران لن تلتزم بالاتفاق إلا في حال رفع العقوبات الأميركية بشكل كامل.

المعلوم أن كل طرف في أى مفاوضات يسعى دائما للتمسك بأقصى حد من المطالب حتى يتمكن من تحقيق أكبر جزء ممكن من أهدافه، ولكن غير المعلوم هو أهداف الإدارة الأميركية في السعى لتجديد هذا الاتفاق برغم تزايد الانتهاكات الإيرانية داخليا وخارجيا، حتى في ظل غياب أى بادرة حسن نوايا من جانب الطرف الإيراني فعلا وقولا.

منتقدي الاتفاق النووي مع إيران في 2015 قالوا ذلك أيضا للرئيس السابق باراك أوباما، لكنه أصر على إتمام الاتفاق ووصفه بأنه واحد من أهم إنجازاته في السياسة الخارجية، معتبرا أن انتخاب حسن روحاني آنذاك المحسوب على مايسمى بالتيار المعتدل، أنه رسالة نحو التغيير من الجانب الإيراني، وأعاد بالفعل مليارات الدولارات إلى نظام يعد النظام الأول في رعاية الإرهاب في العالم، تحولت لاحقا لدعم الميليشيات والقوى المتطرفة في الخارج، وقمع الشعب الإيراني وانتهاك حقوقه في الداخل.
اليوم ما الذي ستفعله الولايات المتحدة في حال التوصل لاتفاق مرتقب في فيينا في ظل وجود قاتل مثل رئيسي في كرسي الحكم، ومرشد يشرعن القتل والإرهاب في قم، ومؤسسات أمنية واقتصادية تخضع بشكل تام لسطوة ميليشيات الحرس الثوري..!
هل من المنتظر هذه المرة أن يقوم النظام الإيراني بتحويل هذه الأموال نحو البناء والتنمية والكف عن العبث عبر تمويل الميليشيات..؟
هل من المنتظر أن تستطيع واشنطن ضبط برنامج الصواريخ الإيرانية..؟
سعى الإدارة الأميركية لصناعة انتصار سياسي مزيف سيأتي على المنطقة وعلى حلفاء الولايات المتحدة والأهم على مراكز الاعتدال في الشرق الأوسط بالكثير من العواقب الوخيمة التي لايُحمد عقباها على أمن واستقرار الشرق الأوسط وكذلك الولايات المتحدة.
وتخطئ الإدارة الأميركية إذا اعتقدت أن أولويات المواجهة مع الصين ستنحصر فقط في المنطقة الأخرى من العالم، واستمرار التجاهل لمخاوف الحلفاء وغض الطرف عن جرائم الموالين للأعداء سيكون له عواقب أخرى ربما تصل إلى ماهو أبعد من الشرق الأوسط.